سورة الأنعام - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} الضمير راجع إلى القرآن، أو إلى العذاب. وقومه المكذبون: هم قريش. وقيل: كل معاند، وجملة: {وَهُوَ الحق} في محل نصب على الحال، أي كذبوا بالقرآن، أو العذاب، والحال أنه حق. وقرأ ابن أبي عبلة {وكذبت} بالتاء {قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي لست بحفيظ على أعمالكم حتى أجازيكم عليها. وقيل: وهذه الآية منسوخة بآية القتال. وقيل ليست بمنسوخة إذ لم يكن إيمانهم في وسعه.
قوله: {لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} أي لكل شيء وقت يقع فيه. والنبأ: الشيء الذي ينبأ عنه. وقيل المعنى: لكل عمل جزاء. قال الزجاج: يجوز أن يكون وعيداً لهم بما ينزل بهم في الدنيا.
وقال الحسن: هذا وعيد من الله للكفار، لأنهم كانوا لا يقرّون بالبعث {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ذلك بحصوله ونزوله بهم، كما علموا يوم بدر بحصول ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوعدهم به.
قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له. والخوض: أصله في الماء ثم استعمل في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيها بغمرات الماء، فاستعير من المحسوس للمعقول. وقيل: هو مأخوذ من الخلط، وكل شيء خضته فقد خلطته، ومنه خاض الماء بالعسل: خلطه. والمعنى: إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والردّ والاستهزاء فدعهم، ولا تقعد معهم لسماع مثل هذا المنكر العظيم حتى يخوضوا في حديث مغاير له، أمره الله سبحانه بالإعراض عن أهل المجالس التي يستهان فيها بآيات الله إلى غاية هي الخوض في غير ذلك.
وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة، الذين يحرّفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردّون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة، فإن إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه فأقلّ الأحوال أن يترك مجالستهم، وذلك يسير عليه غير عسير.
وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزّهه عما يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة، فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر.
وقد شاهدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر، وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا عليه، وبلغت إليه طاقتنا، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها، علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرّمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان، فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه، فيعمل بذلك مدّة عمره ويلقى الله به معتقداً أنه من الحق، وهو من أبطل الباطل وأنكر المنكر.
قوله: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى} {إما} هذه هي الشرطية وتلزمها غالباً نون التأكيد ولا تلزمها نادراً، ومنه قول الشاعر:
إما يصبك عدوّ في منازلة *** يوماً فقل كيف يستعلي وينتصر
وقرأ ابن عباس {ينسينك} بتشديد السين، ومثله قول الشاعر:
وقد ينسيك بعض الحاجة الكسل ***
والمعنى: إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فلا تقعد بعد الذكرى إذا ذكرت {مَعَ القوم الظالمين} أي الذين ظلموا أنفسهم بالاستهزاء بالآيات والتكذيب بها. قيل: وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد التعريض لأمته لتنزّهه عن أن ينسيه الشيطان. وقيل: لا وجه لهذا، فالنسيان جائز عليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» ونحو ذلك.
قوله: {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ} أي ما على الذين يتقون مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله من حساب الكفار من شيء. وقيل المعنى: ما على الذين يتقون ما يقع منهم من الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شيء، وعلى هذا التفسير ففي الآية الترخيص للمتقين من المؤمنين في مجالسة الكفار إذا اضطروا إلى ذلك كما سيأتي عند ذكر السبب. قيل: وهذا الترخيص كان في أوّل الإسلام، وكان الوقت وقت تقية، ثم نزل قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِه} [النساء: 140] فنسخ ذلك، قوله: {ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ} {ذكرى} في موضع نصب على المصدر، أو رفع على أنها مبتدأ، وخبرها محذوف، أي ولكن عليهم ذكرى.
وقال الكسائي: المعنى ولكن هذه ذكرى، والمعنى على الاستدراك من النفي السابق: أي ولكن عليهم الذكرى للكافرين بالموعظة والبيان لهم بأن ذلك لا يجوز. أما على التفسير الأوّل: فلأن مجرد اتقاء مجالس هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما على التفسير الثاني: فالترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الخوض في آيات الله إذا وقعت منكم الذكرى لهم. وأما جعل الضمير للمتقين فبعيد جدّاً.
قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} أي اترك هؤلاء الذين اتخذوا الدين الذي كان يجب عليهم العمل به والدخول فيه لعباً ولهواً، ولا تعلق قلبك بهم فإنهم أهل تعنت، وإن كنت مأموراً بإبلاغهم الحجة. وقيل: هذه الآية منسوخة بآية القتال. وقيل المعنى: أنهم اتخذوا دينهم الذي هم عليه لعباً ولهواً، كما في فعلهم بالأنعام من تلك الجهالات والضلالات المتقدم ذكرها.
وقيل: المراد بالدين هنا العيد، أي اتخذوا عيدهم لعباً ولهواً، وجملة: {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} معطوفة على {اتخذوا} أي غرّتهم حتى آثروها على الآخرة وأنكروا البعث وقالوا: {إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37].
قوله: {وَذَكّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} الضمير في {بِهِ} للقرآن أو للحساب. والإبسال: تسليم المرء نفسه للهلاك، ومنه أبسلت ولدي، أي رهنته في الدم، لأن عاقبة ذلك الهلاك. قال النابغة:
ونحن رهناً بالأُفاقة عامراً *** بما كان في الدرداء رهناً فأبسلا
أي فهلك، والدرداء: كتيبة كانت لهم معروفة بهذا الاسم، فالمعنى: وذكر به خشية أو مخافة أو كراهة أن تهلك نفس بما كسبت، أي ترتهن وتسلم للهلكة، وأصل الإبسال: المنع، ومنه شجاع باسل، أي ممتنع من قرنه.
قوله: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا} العدل هنا: الفدية. والمعنى: وإن بذلت تلك النفس التي سلمت للهلاك كل فدية لا يؤخذ منها ذلك العدل حتى تنجو به من الهلاك، وفاعل {يُؤْخَذْ} ضمير يرجع إلى العدل، لأنه بمعنى المفدى به كما في قوله: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48]. وقيل: فاعله {منها} لأن العدل هنا مصدر لا يسند إليه الفعل. وكل عدل منصوب على المصدر، أي عدلاً كل عدل، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً، وحبره {الذين أبسلوا بما كسبوا} أي هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً هم الذين سلموا للهلاك بما كسبوا، و{لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ} جواب سؤال مقدّر كأنه قيل: كيف حال هؤلاء؟ فقيل: لهم شراب من حميم، وهو الماء الحارّ، ومثله قوله تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ الحميم} [الحح: 19] وهو هنا: شراب يشربونه فيقطع أمعاءهم.
قوله: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا} أمره الله سبحانه بأن يقول لهم هذه المقالة، والاستفهام للتوبيخ، أي كيف ندعوا من دون الله أصناماً لا تنفعنا بوجه من وجوه النفع إن إردنا منها نفعاً، ولا نخشى ضرّها بوجه من الوجوه، ومن كان هكذا فلا يستحق العبادة {وَنُرَدُّ على أعقابنا} عطف على {ندعوا}. والأعقاب: جمع عقب، أي كيف ندعو من كان كذلك ونرجع إلى الضلالة التي أخرجنا الله منها. قال أبو عبيدة: يقال لمن ردّ عن حاجته ولم يظفر بها: قد ردّ على عقبيه.
وقال المبرّد:
تعقب بالشر بعد الخير ***
وأصله من المعاقبة والعقبى، وهما ما كان تالياً للشيء واجباً أن يتبعه، ومنه {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، ومنه عقب الرجل، ومنه العقوبة، لأنها تالية للذنب.
قوله: {كالذى استهوته الشياطين فِى الأرض} هوى يهوى إلى الشيء أسرع إليه.
وقال الزجاج: هو من هوى النفس، أي زين له الشيطان هواه، و{استهوته الشياطين} هوت به، والكاف في {كالذى} إما نعت مصدر محذوف، أي نردّ على أعقابنا ردّاً كالذي، أو في محل نصب على الحال من فاعل نردّ، أي نردّ حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين، أي ذهبت به مردة الجنّ بعد أن كان بين الإنس.
قرأ الجمهور {استهوته} وقرأ حمزة {استهواه} على تذكير الجمع. وقرأ ابن مسعود والحسن {استهواه الشيطان} وهو كذلك في قراءة أبيّ، و{حَيْرَانَ} حال، أي حال كونه متحيراً تائهاً لا يدري كيف يصنع؟ والحيران: هو الذي لا يهتدي لجهة، قود حار يحار حيرة وحيرورة: إذا تردّد، وبه سمى الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائراً.
قوله: {لَهُ أصحاب يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى} صفة لحيران، أو حالية، أي له رفقة يدعونه إلى الهدى يقولون له: ائتنا فلا يجيبهم ولا يهتدي بهديهم. قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} أمره الله سبحانه بأن يقول لهم: {إِنَّ هُدَى الله} أي دينه الذي ارتضاه لعباده {هُوَ الهدى} وما عداه باطل {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. {وَأُمِرْنَا} معطوف على الجملة الإسمية، أي من جملة ما أمره الله بأن يقوله، واللام في {لِنُسْلِمَ} هي لام العلة، والمعلل هو الأمر، أي أمرنا لأجل نسلم لربّ العالمين.
وقال الفراء: المعنى أمرنا بأن نسلم، لأن العرب تقول أمرتك لتذهب، وبأن تذهب بمعنى.
وقال النحاس: سمعت ابن كيسان يقول هي لام الخفض.
قوله: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه} معطوف على {لنسلم} على معنى وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا، ويجوز أن يكون عطفاً على {يدعونه} على المعنى، أي يدعونه إلى الهدى، ويدعونه أن أقيموا {وَهُوَ الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فكيف تخالفون أمره {وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض} خلقاً {بالحق} أو حال كون الخلق بالحق فكيف تعبدون الأصنام المخلوقة؟ قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق} أي واذكر يوم يقول: {كن فيكون} أو واتقوا يوم يقول: كن فيكون. وقيل: هو عطف على الهاء في {واتقوه}. وقيل: إن {يوم} ظرف لمضمون جملة {قَوْلُهُ الحق} والمعنى: وأمره المتعلق بالأشياء الحق، أي المشهود له بأنه حق. وقيل: {قوله} مبتدأ، و{الحق} صفة له و{يَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} خبره مقدّماً عليه، والمعنى: قوله المتصف بالحق كائن يوم يقول كن فيكون. وقيل: إن {قوله} مرتفع {بيكون} و{الحق} صفته، أي يوم يقول كن يكون قوله الحق. وقرأ ابن عامر {فَنَكُونَ} بالنون، وهو إشارة إلى سرعة الحساب. وقرأ الباقون بالياء التحتية وهو الصواب.
قوله: {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور} الظرف منصوب بما قبله، أي له الملك في هذا اليوم. وقيل: هو بدل من اليوم الأوّل، والصور: قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء، والثانية للإنشاء، وكذا قال الجوهري: إن الصور القرن، قال الراجز:
لقد نطحناهم غداة الجمعين *** نطحاً شديداً لا كنطح الصَّورَيْن
والصور بفتح الصاد وبكسرها لغة، وحكي عن عمرو بن عبيد أنه قرأ: {يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور} بتحريك الواو، جمع صورة، والمراد: الخلق. قال أبو عبيدة: وهذا وإن كان محتملاً يردّ بما في الكتاب والسنة.
وقال الفراء: كن فيكون، يقال: إنه للصور خاصة، أي ويوم يقول للصور كن فيكون. قوله: {عالم الغيب والشهادة} رفع {عالم} على أنه صفة للذي خلق السموات والأرض، ويجوز أن يرتفع على إضمار مبتدأ، أي هو عالم الغيب والشهادة، وروي عن بعضهم أنه قرأ: {ينفخ} بالبناء للفاعل، فيجوز على هذه القراءة أن يكون الفاعل {عالم الغيب} ويجوز أن يرتفع بفعل مقدّر كما أنشد سيبويه:
ليبك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيح الطوائح
أي يبكيه مختبط. وقرأ الحسن والأعمش {عالم} بالخفض على البدل من الهاء في {لَهُ الملك}. {وَهُوَ الحكيم} في جميع ما يصدر عنه {الخبير} بكل شيء.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} يقول: كذبت قريش بالقرآن {وَهُوَ الحق} وأما الوكيل فالحفيظ، وأما {لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} فكان نبأ القوم استقرّ يوم بدر بما كان بعدهم من العذاب.
وأخرج النحاس في ناسخه، عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} قال: نسخ هذه الآية آية السيف {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة 5].
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} قال: حبست عقوبتها حتى عمل ذنبها أرسلت عقوبتها.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} قال: فعل وحقيقة ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الآخرة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ونحو هذا في القرآن قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا} قال: يستهزئون بها، نهى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقعد معهم إلا أن ينسى، فإذا ذكر فليقم وذلك قول الله: {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن سيرين أنه كان يرى أن هذه الآية نزلت في أهل الأهواء.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو نعيم في الحلية، عن أبي جعفر قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن محمد بن علي قال: إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله.
وأخرج أبو الشيخ، عن مقاتل قال: كان المشركون بمكة إذا سمعوا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاضوا واستهزءوا، فقال المسلمون: لا تصلح لنا مجالستهم نخاف أن نخرج حين نسمع قولهم ونجالسهم فلا نعيب عليهم، فأنزل الله هذه الآية.
وأخرج أبو الشيخ أيضاً عن السديّ أنه قال: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف.
وأخرج النحاس عن ابن عباس في قوله: {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ} قال: نسخت هذه الآية المكية بالآية المدنية، وهي قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكَفَرُ بِهَا} الآية [النساء: 140].
وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن مجاهد {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ} إن قعدوا ولكن لا يقعدوا.
وأخرج ابن أبي شيبة عن هشام بن عروة، عن عمر بن عبد العزيز، أنه أتى بقوم قعدوا على شراب معهم رجل صائم فضربه وقال: لا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} قال: هو مثل قوله: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر: 11] يعني أنه للتهديد.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، عن قتادة، في هذه الآية قال: نسختها آية السيف.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه في قوله: {لَعِباً وَلَهْواً} قال: أكلاً وشرباً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {أَن تُبْسَلَ} قال: أن تفضح، وفي قوله: {أُبْسِلُواْ} قال: فضحوا وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه في قوله: {أَن تُبْسَلَ} قال: تسلم، وفي قوله: {أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} قال: أسلموا بجرائرهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً في قوله: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله} قال: هذا مثل ضربه الله للآلهة وللدعاة الذين يدعون إلى الله. وقوله: {كالذى استهوته الشياطين فِى الأرض} يقول: أضلته، وهم الغيلان يدعونه باسمه، واسم أبيه، وجدّه، فيتبعها ويرى أنه في شيء فيصبح وقد ألقته في هلكة، وربما أكلته أو تلقيه في مضلة من الأرض، يهلك فيها عطشاً. فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً في قوله: {كالذى استهوته الشياطين} قال: هو الرجل لا يستجيب لهدى الله، وهو الرجل أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية، وحاد عن الحق وضلّ عنه، و{لَهُ أصحاب يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى} ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس يقول: {إِنَّ الهدى هُدَى الله} والضلالة ما تدعو إليه الجن.
وأخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن عبد الله بن عمرو قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور فقال: «قرن ينفخ فيه» والأحاديث الواردة في كيفية النفخ ثابتة في كتب الحديث لا حاجة لنا إلى إيرادها ها هنا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله: {عالم الغيب والشهادة} يعني: إِن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور.


قوله: {لأَبِيهِ ءازَرَ} قال الجوهري: آزر اسم أعجمي، وهو مشتق من آزر فلان فلاناً: إذا عاونه، فهو مؤازر قومه على عبادة الأصنام.
وقال ابن فارس: إنه مشتق من القوّة. قال الجويني في النكت من التفسير له: ليس بين الناس اختلاف في أن اسم والد إبراهيم تارخ، والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر.
وقد تعقب في دعوى الاتفاق بما روي عن ابن إسحاق، والضحاك، والكلبي أنه كان له اسمان: آزر وتارخ.
وقال مقاتل: آزر لقب، وتارخ اسم، وقال سليمان التيمي: إن آزر سب وعتب، ومعناه في كلامهم المعوج.
وقال الضحاك معنى آزر: الشيخ الهرم بالفارسية.
وقال الفراء: هي صفة ذم بلغتهم كأنه قال: يا مخطئ.
وروي مثله عن الزجاج.
وقال مجاهد: هو اسم صنم. وعلى هذا إطلاق اسم الصنم على أبيه: إما للتعيير له لكونه معبوده، أو على حذف مضاف، أي قال لأبيه عابد آزر، أو أتعبد آزر على حذف الفعل. وقرأ ابن عباس {أإزر} بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة، وروي عنه أنه قرأ بهمزتين مفتوحتين، ومحل {إِذْ قَالَ} النصب على تقدير: واذكر إذ قال إبراهيم، ويكون هذا المقدر معطوفاً على {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله} وقيل: هو معطوف على {وذكر به أن تبسل} وآزر عطف بيان.
قوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَة} الاستفهام للإنكار، أي أتجعلها آلهة لك تعبدها {إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ} المتبعين لك في عبادة الأصنام {فِى ضلال} عن طريق الحق {مُّبِينٌ} واضح، {وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم} أي ومثل تلك الإراءة نري إبراهيم، والجملة معترضة، و{مَلَكُوتَ السموات والأرض} ملكهما، وزيدت التاء والواو للمبالغة في الصفة. ومثله الرغبوت والرهبوت مبالغة في الرغبة والرهبة. قيل: أراد بملكوت السموات والأرض ما فيهما من الخلق. وقيل: كشف الله له عن ذلك حتى رأى إلى العرش وإلى أسفل الأرضين. وقيل: رأى من ملكوت السموات والأرض ما قصه الله في هذه الآية. وقيل: المراد بملكوتهما الربوبية والإلهية، أي نريه ذلك ونوفقه لمعرفته بطريق الاستدلال التي سلكها. ومعنى {نُرِى} أريناه، حكاية حال ماضية.
قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} متعلق بمقدّر، أي أريناه ذلك {لِيَكُونَ مِنَ الموقنين} وقد كان آزر وقومه يعبدون الأصنام والكواكب والشمس والقمر، فأراد أن ينبههم على الخطأ. وقيل: إنه ولد في سرب، وجعل رزقه في أطراف أصابعه، فكان يمصها. وسبب جعله في السرب، أن النمروذ رأى رؤيا أن ملكه يذهب على يد مولود فأمر بقتل كل مولود، والله أعلم.
قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل} أي ستره بظلمته، ومنه الجنة والمجنّ والجن كله من الستر، قال الشاعر:
ولولا جنان الليل أدرك ركضنا *** بذي الرمث والأرطي عياض بن ثابت
والفاء للعطف على {قال إبراهيم} أي واذكر إذ قال، وإذ جنّ عليه الليل، فهو قصة أخرى غير قصة عرض الملكوت عليه، وجواب لما {رَأَى كَوْكَباً} قيل: رآه من شق الصخرة الموضوعة على رأس السرب الذي كان فيه. وقيل رآه لما أخرجه أبوه من السرب وكان وقت غيبوبة الشمس، قيل: رأى المشتري، وقيل الزهرة.
قوله: {هذا رَبّى} جملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا قال عند رؤية الكوكب؟ قيل: وكان هذا منه عند قصور النظر؛ لأنه في زمن الطفولية. وقيل: أراد قيام الحجة على قومه كالحاكي لما هو عندهم، وما يعتقدونه، لأجل إلزامهم، وبالثاني قال الزجاج. وقيل: هو على حذف حرف الاستفهام، أي أهذا ربي؟ ومعناه: إنكار أن يكون مثل هذا رباً، ومثله قوله تعالى: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] أي أفهم الخالدون، ومثله قول الهذلي:
رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع *** فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أي أهم هم؟ وقول الآخر:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا *** بسبع رمين الجمر أم بثمانيا
أي أبسبع، وقيل المعنى: وأنتم تقولون هذا ربي فأضمر القول، وقيل المعنى على حذف مضاف، أي هذا دليل ربي {فَلَمَّا أَفَلَ} أي غرب {قَالَ} إبراهيم {لا أُحِبُّ الآفلين} أي الآلهة التي تغرب، فإن الغروب تغير من حال إلى حال، وهو دليل الحدوث {فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغاً} أي طالعاً، يقال: بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع، والبزغ: الشق كأنه يشق بنوره الظلمة {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى} أي لئن لم يثبتني على الهداية، ويوفقني للحجة {لاَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين} الذين لا يهتدون للحق فيظلمون أنفسهم، ويحرمونها حظها من الخير، {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً} بازغاً وبازغة منصوبان على الحال، لأن الرؤية بصرية، وإنما {قَالَ هذا رَبّى} مع كون الشمس مؤنثة، لأن مراده هذا الطالع، قاله: الكسائي والأخفش. وقيل: هذا الضوء. وقيل: الشخص {هذا أَكْبَرُ} أي بما تقدّمه من الكوكب والقمر {قَالَ يَاقَوْم إِنّى بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ} أي من الأشياء التي تجعلونها شركاء لله وتعبدونها، وما موصولة أو مصدرية، قال بهذا لما ظهر له أن هذه الأشياء مخلوقة لا تنفع ولا تضرّ، مستدلاً على ذلك بأفولها الذي هو دليل حدوثها {إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ} أي قصدت بعبادتي وتوحيدي الله عزّ وجلّ. وذكر الوجه لأنه العضو الذي يعرف به الشخص، أو لأنه يطلق على الشخص كله كما تقدّم.
وقد تقدّم معنى {فَطَرَ السموات والأرض حَنِيفاً} مائلاً إلى الدين الحق.
قوله: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} أي وقعت منهم المحاججة له في التوحيد بما يدل على ما يدّعونه من أن ما يشركون به ويعبدونه من الأصنام آلهة، فأجاب إبراهيم عليه السلام بما حكاه الله عنه أنه قال: {أَتُحَاجُّونّى فِى الله} أي في كونه لا شريك له ولا ندّ ولا ضدّ.
وقرأ نافع بتخفيف نون أتحاجوني. وقرأ الباقون بتشديدها بإدغام نون الجمع في نون الوقاية، ونافع خفف فحذف إحدى النونين، وقد أجاز ذلك سيبويه.
وحكى عن أبي عمرو بن العلاء أن قراءة نافع لحن، وجملة {وَقَدْ هَدَانِى} في محل نصب على الحال، أي هداني إلى توحيده وأنتم تريدون أن أكون مثلكم في الضلالة والجهالة وعدم الهداية.
قوله: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} قال هذا لما خوّفوه من آلهتهم بأنها ستغضب عليه وتصيبه بمكروه، أي إني لا أخاف ما هو مخلوق من مخلوقات الله لا يضرّ ولا ينفع، والضمير في {به} يجوز رجوعه إلى الله وإلى معبوداتهم المدلول عليها بما في {مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً} أي إلا وقت مشيئته ربي بأن يلحقني شيئاً من الضرر بذنب عملته فالأمر إليه، وذلك منه لا من معبوداتكم الباطلة التي لا تضرّ ولا تنفع. والمعنى: على نفي حصول ضرر من معبوداتهم على كل حال، وإثبات الضرر والنفع لله سبحانه، وصدورهما حسب مشيئته، ثم علل ذلك بقوله: {وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَئ عِلْماً} أي إن علمه محيط بكل شيء، فإذا شاء الخير كان حسب مشيئته، وإذا شاء إنزال شرّ بي كان، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ثم قال لهم مكملاً للحجة عليهم، ودافعاً لما خوّفوه به {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سلطانا} أي كيف أخاف ما لا يضرّ ولا ينفع ولا يخلق ولا يرزق، والحال أنكم لا تخافون ما صدر منكم من الشرك بالله، وهو الضارّ النافع الخالق الرازق، والاستفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم. و{ما} في {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سلطانا} مفعول أشركتم، أي ولا تخافون أنكم جعلتم الأشياء التي لم ينزل بها عليكم سلطاناً شركاء لله، أو المعنى: أن الله سبحانه لم يأذن بجعلها شركاء له، ولا نزل عليهم بإشراكها حجة يحتجون بها، فكيف عبدوها واتخذوها آلهة، وجعلوها شركاء لله سبحانه؟
قوله: {فَأَىُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن} المراد بالفريقين: فريق المؤمنين وفريق المشركين، أي إذا كان الأمر على ما تقدم من أن معبودي هو الله المتصف بتلك الصفات، ومعبودكم هي تلك المخلوقات، فكيف تخوّفوني بها، وكيف أخافها؟ وهي بهذه المنزلة، ولا تخافون من إشراككم بالله سبحانه، وبعد هذا فأخبروني أي الفريقين أحق بالأمن وعدم الخوف {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} بحقيقة الحال، وتعرفون البراهين الصحيحة وتميزونها عن الشبه الباطلة؟ ثم قال الله سبحانه قاضياً بينهم ومبيناً لهم {الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ} أي هم الأحق بالأمن من الذين أشركوا.
وقيل: هو من تمام قول إبراهيم، وقيل: هو من قول قوم إبراهيم. ومعنى {لَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ}: لم يخلطوه بظلم. والمراد بالظلم الشرك، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان: {يابنى لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]»، والعجب من صاحب الكشاف حيث يقول في تفسير هذه الآية: وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس، وهو لا يدري أن الصادق المصدوق قد فسرها بهذا، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصول المتصف بما سبق. و{لَهُمُ الأمن} جملة وقعت خبراً عن اسم الإشارة. هذا أوضح ما قيل مع احتمال غيره من الوجوه. {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} إلى الحق ثابتون عليه، وغيرهم على ضلال وجهل.
والإشارة بقوله: {تِلْكَ حُجَّتُنَا} إلى ما تقدّم من الحجج التي أوردها إبراهيم عليهم، أي تلك البراهين التي أوردها إبراهيم عليهم من قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل} إلى قوله: {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} {تِلكَ حُجَّتُنَا ءاتيناها إبراهيم} أي أعطيناه إياها وأرشدناه إليها، وجملة {آتَيْنَاهَآ إبراهيم} في محل نصب على الحال، أو في محل رفع على أنها خبر ثان لاسم الإشارة {على قَوْمِهِ} أي حجة على قومه {نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء} بالهداية والإرشاد إلى الحق وتلقين الحجة، أو بما هو أعم من ذلك {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي حكيم في كل ما يصدر عنه عليم بحال عباده، وأن منهم من يستحق الرفع ومنهم من لا يستحقه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأبِيهِ ءازَرَ} قال الآزر الضم، وأبو إبراهيم اسمه يازر، وأمه اسمها مثلي، وامرأته اسمها سارة، وسريته أم إسماعيل اسمها هاجر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: آزر لم يكن بأبيه ولكنه اسم صنم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ قال: اسم أبيه تارخ، واسم الصنم آزر.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن سليمان التيمي، أنه قرأ: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ ءازَرَ} قال: بلغني أنها أعوج وأنها أشدّ كلمة قالها إبراهيم لأبيه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس أنه قال: إن والد إبراهيم لم يكن اسمه آزر، وإنما اسمه تارخ.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، عنه في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والأرض} قال: الشمس والقمر والنجوم.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه قال في الآية: كشف ما بين السموات حتى نظر إليهنّ على صخرة، والصخرة على حوت، وهو الحوت الذي منه طعام الناس، والحوت في سلسلة، والسلسلة في خاتم العزّة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن مجاهد في الآية: قال سلطانهما.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس، في قوله: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} يقول: خاصموه، وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {أَتُحَاجُّونّى} قال: أتخاصموني.
وأخرج ابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي بكر الصديق أنه فسر {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ} بالشرك. وكذلك أخرج أبو الشيخ عن عمر بن الخطاب. وكذلك أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن حذيفة بن اليمان. وكذلك أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن سلمان الفارسي. وكذلك أخرجا أيضاً عن أبيّ بن كعب. وكذلك أخرج ابن المنذر، وابن مردويه، عن ابن عباس.
وأخرج عنه من طريق أخرى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وأبو الشيخ مثله، وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ذلك، ويغني عن الجميع ما قدّمنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية كما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ} قال: خصمهم.
وأخرج أبو الشيخ، عن زيد بن أسلم، في قوله: {نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء} قال: بالعلم.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك قال: إن للعلماء درجات كدرجات الشهداء.


قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ} معطوف على جملة {وتلك حجتنا} عطف جملة فعلية على جملة اسمية. وقيل: معطوف على {آتيناها} والأوّل أولى. والمعنى: ووهبنا له ذلك جزاء له على الاحتجاج في الدين وبذل النفس فيه، و{كُلاًّ هَدَيْنَا} انتصاب {كلاً} على أنه مفعول لما بعده مقدّم عليه للقصر، أي كل واحد منهما هديناه، وكذلك نوحاً منصوب بهدينا الثاني، أو بفعل مضمر يفسره ما بعده {وَمِن ذُرّيَّتِهِ} أي من ذرية إبراهيم، وقال الفراء: من ذرية نوح. واختاره ابن جرير الطبري، والقشيري، وابن عطية، واختار الأوّل الزجاج، واعترض عليه بأنه عدّ من هذه الذرية يونس ولوطاً، وما كان من ذرية إبراهيم، فإن لوطاً هو ابن أخي إبراهيم، وانتصب {دَاوُودُ وسليمان} بفعل مضمر، أي وهدينا من ذرية داود وسليمان، وكذلك ما بعدها، وإنما عدّ الله سبحانه هداية هؤلاء الأنبياء من النعم التي عدّدها على إبراهيم، لأن شرف الأبناء متصل بالآباء. ومعنى {من قبل} في قوله: {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} أي من قبل إبراهيم، والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى مصدر الفعل المتأخر، أي ومثل ذلك الجزاء {نَجْزِى المحسنين}.
{وَإِلْيَاسَ} قال الضحاك: هو من ولد إسماعيل، وقال القتيبي: هو من سبط يوشع ابن نون، وقرأ الأعرج والحسن، وقتادة {وَإِلْيَاسَ} بوصل الهمزة، وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم {واليسع} مخففاً. وقرأ الكوفيون إلا عاصماً بلامين، وكذلك قرأ الكسائي، ورد القراءة الأولى، ولا وجه للردّ فهو اسم أعجمي، والعجمة لا تؤخذ بالقياس، بل تؤدي على حسب السماع، ولا يمتنع أن يكون في الاسم لغتان للعجم، أو تغيره العرب تغييرين. قال المهدوي: من قرأ بلام واحدة فالاسم يسع والألف واللام مزيدتان، كما في قول الشاعر:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركا *** شديداً بأعباء الخلافة كاهله
ومن قرأ بلامين فالاسم ليسع، وقد توهم قوم أن اليسع هو إلياس وهو وهم، فإن الله أفرد كل واحد منهما، وقال وهب: اليسع صاحب إلياس، وكانوا قبل يحيى وعيسى وزكريا. وقيل: إلياس هو إدريس، وهذا غير صحيح، لأن إدريس جدّ نوح وإلياس من ذريته. وقيل: إلياس هو الخضر وقيل: لا بل اليسع هو الخضر {وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين} أي كل واحد فضلناه بالنبوّة على عالمي زمانه، والجملة معترضة.
قوله: {وَمِنْ ءابَائِهِمْ وذرياتهم وإخوانهم} أي هدينا، و{من} للتبعيض، أي هدينا بعض آبائهم وذرياتهم وأزواجهم {واجتبيناهم} معطوف على فضلنا. والاجتباء: الاصطفاء أو التخليص أو الاختيار، مشتق من جبيت الماء في الحوض جمعته، فالاجتباء: ضم الذي تجتبيه إلى خاصتك. قال الكسائي: جبيت الماء في الحوض جباً مقصورة، والجابية الحوض، قال الشاعر:
كجابية الشيخ العراقي تفهق ***
والإشارة بقوله: {ذلك هُدَى الله} إلى الهداية والتفضيل والاجتباء المفهومة من الأفعال السابقة {يَهْدِى بِهِ} الله {مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} وهم الذين وفقهم للخير واتباع الحق {وَلَوْ أَشْرَكُواْ} أي هؤلاء المذكورون بعبادة غير الله {لَحَبِطَ عَنْهُمْ} من حسناتهم {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} والحبوط البطلان.
وقد تقدّم تحقيقه في البقرة. والإشارة بقوله: {أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب} إلى الأنبياء المذكورين سابقاً، أي جنس الكتاب، ليصدق على كل ما أنزل على هؤلاء المذكورين: {والحكم} العلم {والنبوة} الرسالة، أي ما هو أعمّ من ذلك {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء} الضمير في بها للحكم والنبوّة والكتاب، أو للنبوّة فقط، والإشارة بهؤلاء إلى كفار قريش المعاندين لرسول الله صلى الله عليه وسلم {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً} هذا جواب الشرط، أي ألزمنا بالإيمان بها قوماً {لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} وهم المهاجرون والأنصار أو الأنبياء المذكورون سابقاً، وهذا أولى لقوله فيما بعد: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} فإن الإشارة إلى الأنبياء المذكورين لا إلى المهاجرين والأنصار، إذ لا يصح أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهداهم، وتقديم بهداهم على الفعل يفيد تخصيص هداهم بالاقتداء. والاقتداء طلب موافقة الغير في فعله. وقيل المعنى: اصبر كما صبروا. وقيل: اقتد بهم في التوحيد، وإن كانت جزئيات الشرائع مختلفة، وفيها دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالاقتداء بمن قبله من الأنبياء فيما لم يرد عليه فيه نصّ.
قوله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أمره الله بأن يخبرهم بأنه لا يسألهم أجراً على القرآن، وأن يقول لهم ما {هُوَ إِلاَّ ذكرى} يعني القرآن {للعالمين} أي موعظة وتذكير للخلق كافة، الموجودين عند نزوله، ومن سيوجد من بعد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن كعب قال: الخال والد والعم والد، نسب الله عيسى إلى أخواله فقال: {وَمِن ذُرّيَّتِهِ} حتى بلغ إلى قوله: {وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى}.
وأخرج أبو الشيخ، والحاكم، والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال: دخل يحيى بن يعمر على الحجاج فذكر الحسين، فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي، فقال يحيى: كذبت، فقال: لتأتيني على ما قلت ببينة، فتلا: {وَمِن ذُرّيَّتِهِ} إلى قوله: {وَعِيسَى} فأخبر الله أن عيسى من ذرية آدم بأمه، فقال: صدقت.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي تجده في كتاب الله؟ وقد قرأته من أوّله إلى آخره فلم أجده، فذكر يحيى بن يعمر نحو ما تقدم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {واجتبيناهم} قال: أخلصناهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد في قوله: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قال: يريد هؤلاء الذين هديناهم وفعلنا بهم.
وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد قال: الحكم: اللب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء} يعني أهل مكة. يقول: إن يكفروا بالقرآن {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} يعني أهل المدينة والأنصار.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً} قال: هم الأنبياء الثمانية عشر الذين قال الله فيهم {فَبِهُدَاهُمُ اقتده}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي رجاء العطاردي قال في الآية: هم الملائكة.
وأخرج البخاري، والنسائي وغيرهما، عن ابن عباس، في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهداهم وكان يسجد في ص، ولفظ ابن أبي حاتم عن مجاهد: سألت ابن عباس عن السجدة التي في ص، فقال هذه الآية، وقال: أمر نبيكم أن يقتدي بداود عليه السلام.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} قال: قل لهم يا محمد: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه عرضاً من عروض الدنيا.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8